سورة فصلت - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)}
قوله تعالى: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم: ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم: فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عز وجل: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ} الآية، خرجه الترمذي فقال: اختصم عند البيت ثلاثة نفر. ثم ذكره بلفظه حرفا حرفا وقال: حديث حسن صحيح، حدثنا هناد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة ابن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم قرشي وختناه ثقفيان أو ثقفي وختناه قرشيان فتكلموا بكلام لم أفهمه فقال أحدهم: أترون ان الله يسمع كلامنا هذا، فقال الأخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه: وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه، فقال الأخر: ان سمع منه شيئا سمعه كله، فقال عبد الله: فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانزل الله تعالى: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الثعلبي: والثقفي عبد ياليل، وختناه ربيعة وصفوان بن أمية. ومعنى {تَسْتَتِرُونَ} تستخفون في قول أكثر العلماء، أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية.
وقيل: الاستتار بمعنى الاتقاء، أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة.
وقال معناه مجاهد.
وقال قتادة: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي تظنون {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} بأن يقول سمعت الحق وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي {وَلا أَبْصارُكُمْ} فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز {وَلا جُلُودُكُمْ} تقدم. {وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} قال: «إنكم تدعون يوم القيامة مفدمة أفواهكم بفدام فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه» قال عبد الله بن عبد الأعلى الشامي فأحسن.
العمر ينقص والذنوب تزيد ***- تقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد *** رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي *** تقليلها وعن الممات يحيد
وعن معقل بن يسار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا ويقول الليل مثل ذلك» ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب التذكرة في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال.
وقال محمد بن بشير فأحسن:
مضى أمسك الأدنى شهيدا معدلا ***- ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة ***- فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد ***- لعل غدا يأتي وأنت فقيد
قوله تعالى: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ} أي أهلككم فأوردكم النار. قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما أساءوا الظن بربهم فأهلكهم» فذلك قوله: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ}.
وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظن بربه فليفعل، فإن الظن اثنان ظن ينجي وظن يردي.
وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون المعاصي ولا يتوبون منها ويتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثم قرأ: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} أي فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم. نظيره: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] على ما تقدم. {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم {فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}.
وقيل: المعنى {فإن يصبروا}
في النار أو يجزعوا {فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} أي لا محيص لهم عنها، ودل على الجزع قوله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} لأن المستعتب جزع والمعتب المقبول عتابه، قال النابغة:
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ***- إن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
أي مثلك من قبل الصلح والمراجعة إذا سئل. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة. تقول: عاتبته معاتبة، وبينهم أعتوبة يتعاتبون بها. يقال: إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة، والاسم منه العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتب وأعتب بمعنى، واستعتب أيضا طلب أن يعتب، تقول: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. فمعنى {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} أي طلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل لا بد لهم من النار.
وفي التفاسير: وإن يستقيلوا ربهم فما هم من المقالين. وقرأ عبيد بن عمير وأبو العالية {وإن يستعتبوا} بفتح التاء الثانية وضم الياء على الفعل المجهول {فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} بكسر التاء أي إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لما سبق لهم في علم الله من الشقاء، قال الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] ذكره الهروي.
وقال ثعلب: يقال أعتب إذا غضب وأعتب إذا رضي. قوله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} قال النقاش: أي هيأنا لهم شياطين.
وقيل: سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا، أي سببنا لهم قرناء، يقال: قيض الله فلانا لفلان أي جاءه به وأتاحه له، ومنه قوله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ}. القشيري: ويقال قيض الله لي رزقا أي أتاحه كما كنت أطلبه، والتقييض الإبدال ومنه المقايضة، قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما تقول بيعان. {فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الآخرة {وَما خَلْفَهُمْ} حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة، عن مجاهد.
وقيل: المعنى {قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} في النار {فَزَيَّنُوا لَهُمْ} أعمالهم في الدنيا، والمعنى قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم.
وقيل: المعنى أحوجناهم إلى الأقران، أي أحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، والغني إلى الفقير ليستعين به فزين بعضهم لبعض المعاصي. وليس قوله: {وَما خَلْفَهُمْ} عطفا على {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بل المعنى وأنسوهم ما خلفهم ففيه هذا الإضمار قال ابن عباس: {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} تكذيبهم بأمور الآخرة {وَما خَلْفَهُمْ} التسويف والترغيب في الدنيا. الزجاج: {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما عملوه {وَما خَلْفَهُمْ} ما عزموا على أن يعملوه. وقد تقدم قول مجاهد.
وقيل: المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي {وَما خَلْفَهُمْ} ما يعمل بعدهم. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم.
وقيل: {في} بمعنى مع، فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه.
وقيل: {فِي أُمَمٍ} في جملة أمم، ومثله قول الشاعر:
إن تك عن أحسن الصنيعة ما *** فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يريد فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد. ومحل {فِي أُمَمٍ} النصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمُ} أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. {إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.


{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} لما أخبر تعالى عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا}.
وقيل: معنى {لا تَسْمَعُوا} لا تطيعوا، يقال: سمعت لك أي أطعتك. {وَالْغَوْا فِيهِ} قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول.
وقيل: إنهم فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن.
وقال مجاهد: المعنى {وَالْغَوْا فِيهِ} بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق. حتى يصير لغوا.
وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول.
وقال أبو العالية وابن عباس أيضا: قعوا فيه. وعيبوه. {لعلكم تغلبون} محمدا على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب. وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي {والغوا} بضم الغين وهي لغة من لغا يلغو. وقراءة الجماعة من لغي يلغى قال الهروي: وقوله: {وَالْغَوْا فِيهِ} قيل: عارضوه بكلام لا يفهم. يقال: لغوت ألغو وألغى، ولغي يلغى ثلاث لغات. وقد مضى معنى اللغو في البقرة وهو ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل. قوله تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً} قد تقدم أن الذوق يكون محسوسا، ومعنى العذاب الشديد: ما يتوالى فلا ينقطع. العذاب في جميع أجزائهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. واسوأ الأعمال الشرك. قوله تعالى: {ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ} أي ذلك العذاب الشديد، ثم بينه بقوله: {النَّارُ} وقرأ ابن عباس {ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد} فترجم بالدار عن النار وهو مجاز الآية. و{ذلك} ابتداء و{جزاء} الخبر و{النار} بدل من {جزاء} أو خبر مبتدأ مضمر، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني في النار فذكره بلفظ الماضي والمراد المستقبل {رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} يعني إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: «ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه لأنه أول من سن القتل» خرجه الترمذي، وقيل: هو بمعنى الجنس وبني على التثنية لاختلاف الجنسين. {نجعلها تحت أقدامنا ليكونا} سألوا ذلك حتى يشتفوا منهم بأن يجعلوهم تحت أقدامهم {لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} في النار وهو الدرك الأسفل سألوا أن يضعف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وقرأ ابن محيص والسوسي عن أبى عمرو وابن عامر وأبو بكر والمفضل {أرنا} بإسكان الراء وعن أبى عمرو أيضا باختلاسها. وأشبع الباقون كسرتها وقد تقدم في الأعراف.


{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا.
وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبده ورسوله، فاستقام.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال: «قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام» قال: حديث غريب. ويروى في هذه الآية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى {اسْتَقامُوا}، ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك- وفي رواية- غيرك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» زاد الترمذي قلت: «يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: هذا». وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: {ثُمَّ اسْتَقامُوا} لم يشركوا بالله شيئا.
وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} و{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل {قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} فلم يلتفتوا إلى إله غيره {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ} بشرك {أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يرغوا روغان الثعالب.
وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله.
وقال علي رضي الله عنه: ثم أدوا الفرائض. وأقوال التابعين بمعناها. قال ابن زيد وقتادة: استقاموا على الطاعة لله. الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته.
وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا.
وقال سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا.
وقال الربيع: اعرضوا عما سوى الله.
وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقيل: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرارا.
وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.
وقال أنس: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هم أمتي ورب الكعبة».
وقال الإمام ابن فورك: السين سين الطلب مئل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة. قلت: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا، وداموا على ذلك.
{تتنزل عليهم الملائكة} قال ابن زيد ومجاهد: عند الموت.
وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث.
وقال ابن عباس: هي بشرى تكون لهم من الملائكة في الآخرة.
وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. {أَلَّا تَخافُوا} أي ب {أَلَّا تَخافُوا} فحذف الجار.
وقال مجاهد: لا تخافوا الموت. {وَلا تَحْزَنُوا} على أولادكم فان الله خليفتكم عليهم.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ذنوبكم. {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ} أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ}.
قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة.
وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم. {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} أي من الملاذ. {وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} تسألون وتتمنون. {نُزُلًا} أي رزقا وضيافة وقد تقدم في آل عمران وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا.
وقيل: على الحال.
وقيل: هو جمع نازل، أي لكم ما تدعون نازلين، فيكون حالا من الضمير المرفوع في {تدعون} أو من المجرور في {لكم}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6